الإثنين - 26 مايو 2025 - الساعة 01:27 م
في زمنٍ تتلاشى فيه المواقف وتغيب النماذج الملهمة، تبرز بعض الأسر كنماذج مضيئة في دروب المجتمع، تحفظ القيم الأصيلة، وتجسد معاني الفضيلة والمروءة. ومن هذه الأسر الكريمة، تتجلى أسرة الشيخ الرشيد سعيد بن عامر بريعمه رحمه الله تغشاة كواحدة من الأسر العريقة في وادي حريب، التي صنعت بصمتها الأخلاقية والاجتماعية بحضورها الإيجابي ومواقفها المشرفة.
لقد عرفت الشيخ سعيد بن عامر برجاحة العقل، ونقاء السريرة، وقوة الكلمة. كان طويل القامة، نحيف البنية يحمل عكازة بيمناة بنشاط إلا أن وجهه المضيء بالإيمان ولسانه الذاكر، كانا شاهدين على صفاء قلبه ونقاء روحه. رجل لا يساوم على قول الحق، ولا يخشى في سبيله لومة لائم، ثابت في مواقفه، واضح في طرحه، صادق في نياته.
كانت مجالسته متعة فكرية وحوارية. وكنت أزوره في منزله بمزرعته، فأجده رجل قبيلة فذا، على سريرته متعلمًا، غير متكلف، محاورًا قوي الحجة، يضع مصلحة مجتمعه فوق كل اعتبار، ويعبر بصدق عن تطلعات الناس أمام كبار المسؤولين وقيادات عسكرية ووزراء وزائرين رسميين قدموا إلى المنطقة آنذاك، دون تردد أو مجاملة أو تزييف للحقائق. لم يكن يسعى إلى منصب، ولا إلى شهرة، بل كان صوتا مجتمعيًا حكيمًا، ينبض بضمير المواطنين، ويسعى لترسيخ الأمن والاستقرار، خاصة في سنوات التشطير والانقسام.
وما ورثه من مكارم الأخلاق، غرسه في أبنائه الذين ساروا على نهجه في التواضع والكرم ورفعة الخلق. وقد عرفت بعضهم عن قرب، كالمرحوم محسن بن سعيد أبو شايف الذي اتصف بدماثة الخلق، وكذلك الأخ الكريم أبو ماجد، الزميل والصديق، الذي كان مثالًا للرقي في القول والفعل. أما الأخ صالح بن سعيد، فقد رحل مبكرًا، وكان رحيله فاجعة صعقت القلب والوجدان، لأنه كان أخًا غاليًا لا يُعوَّض، رحمه الله وغفر له.
وفي مساء الجمعة، 23 مايو 2025م، اختطف الموت رجلًا آخر من تلك السلالة النبيلة.. الشيخ علي بن سعيد أبو ناجي الذي غادر دنيانا بصمت، دون وداع، ليترجل مبكرًا في وقتٍ كان المجتمع في أمس الحاجة إليه. كان إنسانًا متواضعًا، زاهدًا، عابدًا، لا يعرف إلا طريق الخير والنقاء.
نعم، رحل عنّا الشيخ علي بن سعيد عامر، لكنه لم يرحل من قلوبنا وذاكرتنا. فهو من أولئك الرجال الذين يموتون بأجسادهم، لكنهم يحيون في مآثرهم، في قيمهم، في الآثار التي غرسوها بين الناس، في صرح الجيل الذي أسهم في بنائه، وأراده أن يكون عاليًا، ملهمًا، متشبعًا بالقيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية.
عرفته في الثمانينات، في منزل والده الطيب، أثناء عودته القصيرة من المملكة العربية السعودية إلى أهله وأحبته. وكان أول ما شدني إليه وجهه الوضاء، وجه يشع بالطاعة والسكينة، ويعكس جوهر رجلٍ تخلّق بأخلاق الإسلام، وتمثل قيم البر والتقوى في سلوكه وحديثه ومعاملاته مع القريب والبعيد.
كان ناصحًا صادقًا، لا ينطق إلا بخير، ولا يدعو إلا إلى فضيلة. وحين التقاني يومها، شدّ على يدي، وأوصاني بطاعة الوالدين، وحُسن البر بهما، والحفاظ على صلة الرحم. وكأن كلماته لم تكن مجرد حديث عابر، بل كانت وصية حياة، لازمتني وما زالت تتردد في سمعي حتى اليوم.
لقد رحل الشيخ علي، لكنه رحل كما يرحل الكبار.. من تركوا خلفهم أثرًا لا يُمحى، وسيرة لا تُنسى، وشجرة مباركة من الخير والنبل. مات وهو يبني جيلا متسلحآ بالعلم والمعارف وهو يغرس، وهو يعلّم ويوجه. مات وسط أهله وناسه، يحمل في قلبه محبة الجميع، ويكن له الجميع الاحترام والتقدير لروحه السلام
فوداعًا أيها الرجل الطيب...
وداعًا أيها المؤمن الصادق...
رحلت جسدًا، لكنك باقٍ بما زرعت، بما نصحت، بما أسست من قيم ستظل نورا يضيء للأجيال طريقهم.
نسأل الله أن يتغمّدك بواسع رحمته، ويسكنك فسيح جناته، ويجزيك عنّا وعن جيلنا كل خير.
ورغم غيابنا عن بعضنا لفترة من الزمن، بسبب ظروف البلد القاهرة، فإن الذاكرة تحفظ لأمثالك مواقفهم النبيلة، والقلوب تبقى وفية لمن صنعوا الفارق بأخلاقهم وصدقهم ونبل سيرتهم، ولطف كلماتهم بين الناس.
رحم الله الشيخ سعيد بن عامر، وأجزل له الأجر والمثوبة، وتغمّد نجله الشيخ علي بن سعيد ومن سبقوة من الاسرة بواسع رحمته، وجعل من خلفهم خير خلف، ليواصلوا حمل مشعل القيم والخير بين مجتمعهم.