عواصم

الأحد - 01 يناير 2023 - الساعة 10:03 م بتوقيت اليمن ،،،

قتبان نيوز - متابعات :


الحلقه الاولى
(1 )
قبل مدة قرأت مقالأ للأخ فالح حسون الدراجي بعنوان " خوش ولد " وعندما قرأت العبارة التي وردت في المقال والتي تقول " همّ شلبسون الشيوعيون ، وشلون واحد يعرفهم ؟ " تذكرت قصة مشابه حصلت في مدينة عتق (جمهورية اليمن الديمقراطية ) فتولدت لدي الرغبة أن اكتب عن يومياتي للفترة التي عشتها في شبوة تلك المحافظة المتاخمة للربع الخالي.

عتق عاصمة المحافظة تبعد ما يقارب التسع ساعات عن عدن ، ويربطها بعدن طريق مبلط وجزء قليل منه كان غير مبلط. وتمتد الطريق عبر مناطق جبلية جرداء ترتفع احيانا الى اكثر من 500 م عن سطح البحر .ولا تستغرب عزيزي القاريء إذا قلت لك بأن عتق مركز محافظة شبوة لايوجد فيها ولا شارع واحد مبلط .فهي مدينة اصغر من مدينة الدغارة ،متخلفة عنها في نواحي ومتقدمة في نواحي اخرى . معظم ابنيتها من الطين ( اللبن )، بعضها مكون من طابق والآخر من طابقين أو ثلاثة ، والشبابيك في هذه الأبنية صغيرة وخشبية ومزخرفة ولا يوجد سياج خارج البيت وعلى امتداد البصر لايرى المرء سوى الجبال الصخرية الجرداء .

توجد في المدينة سينما حكومية هي الأخرى مبنية من اللبن وتماثل السينما الصيفي في السماوة لأنها مكشوفة وكانت تعرض افلاما جيدة .كنا حين نرتادها نأخذ معنا بطانيات لنتقي برد الصحراء القارس . هناك مدرسة ثانوية كبيرة للبنين ، عدد طلبتها ( في ذلك الوقت ) حوالي 1500 طالبا يأتونها من مختلف مناطق وقصبات المحافظة ، لذا كان هناك قسم داخلي ملحق بها و كان الشيوعيون العراقيون ممن يحملون شهادات جامعية يشكلون كادرها برمته ماعدا مدرسيّن اثنين احدهما في الرياضيات والآخر في التاريخ وكان المرحوم ابو رياض مديرا لها .

كما يوجد في عتق مركز ثقافي يمارس فيه الشباب مختلف الأنشطة الثقافية وتقام فيه المعارض والندوات .وهناك مكتبة صغيرة لبيع الكتب وهي حكومية ..والدولة تساهم بنصف ثمن الكتاب ( وهذا النظام الوحيد في العالم العربي ) ، املا في تشجيع الثقافة .

كانت عتق في ذلك الوقت تفتقر الى وجود صيدلية ورغم أن السكان يحصلون على مختلف انواع الأدوية مجانا من مستشفى عتق المركزي لكن كانوا احيانا يلجأون لشرائها من بعض الدكاكين ومعظمها منتهية صلاحياتها .وهنا راودت ذهن الدكتور ابو ظفر فكرة مفاتحة المسؤولين في المحافظة لبناء صيدلية في المدينة . وفعلا اتصل بالأخوة المسؤولين الذين رحبوا بالفكرة وابدوا استعدادهم للمساعدة . (الأشقاء في الحزب الأشتراكي اليمني يمتلكون الحماس والرغبة العارمة في التغيير ، متواضعون الى حد كبير ، يصغون بإنتباه لكل اقتراح يطرح عليهم لغرض التطوير ويبذلون جهدهم لتنفيذه مهما كان بسيطا ّ )

طرح الدكتور ابو ظفر الفكرة على الرفاق الشيوعيين وابدوا استعدادهم للمساعدة . تمّ اختيار المكان لبناء الصيدلية وكانت بناية صغيرة مهجورة في وسط المدينة ، تمّ تجهيز مواد البناء وتطوع العديد من الرفاق للعمل ومنهم الرفيق ابو شكرية ، ابو زينب ، سلام ، ابو نشأت والشهيد صارم وغيرهم تخونني الذاكرة لذكر اسمائهم. وفي احد الأيام وبينما كان الرفاق منهمكين بالعمل ، مرّ بالمكان رجل عجوز فسأل احد المارة :" من هولاء الناس الذين يبنون ؟ "فأجابه الثاني قائلا : " إنهم الشيوعيون العراقيون . "
ــ إني اراهم بشر مثلنا !

ــومن قال غير ذلك ؟ إنهم ناس مثقفون وطيبون ويقدمون لنا خدمات جليلة

مستشفى عتق المركزي تمّ بناؤه من قبل الحكومة الكويتية وتبرع منها لليمن الديمقراطية . البناء مصمم كمجمع صحي كبير فيه اقسام متعددة ومجهز بأحدث الآثاث والأجهزة الطبية . كان ابو ظفر الطبيب الوحيد في مدينة عتق وكان يقوم بالتوليد احيانا وذلك لعدم وجود اي عنصر نسائي في المستشفى كممرضة أو قابلة مأذونة . في ذلك الوقت كان يوجد في المستشفى حوالي 30 منتسبا ـ مضمدين ومساعدي اطباء . طريقة الفحص الطبي تتم بقيام مساعد الطبيب بالكشف على المريض وحين يتطلب الأمر مشورة الطبيب يحال المريض اليه . إن هذا النظام يفوق ما موجود في العراق حيث يتيح للطبيب فرصة اكبر لمعاينة المريض وتشخيص حالته بدقة .

في عتق تربينا على التواضع ، فالناس هناك يعيشون في اكمل صور الديمقراطية ، لا فرق بين مسؤول كبير او آخر صغير إلا بالعمل . ورغم الصعوبة الشديدة لطبيعتهم إلا أنهم عمالقة في طموحاتهم ويخلقون شيئا من لاشيء .لذا كلفوا الدكتور ابو ظفر ليقوم بالإشراف على عمل مديرية الصحة في المحافظة .فقام

بوضع البرامج المختلفة لتطوير العمل الصحي على عموم محاقظة شبوة فأصدر مجلة حائطية دورية اسماها " مجلة الصحة والحياة " قام برئاسة تحريرها وكتب معظم مواضيع العدد الأول منها والذي اطلق عليه العدد صفر تيمنا بالصفر . كما قام بإفتتاح مشروع رعاية الأمومة والطفولة لأول مرة في المحافظة بشكل أثار إعجاب الطبيب السويدي المكلف من قبل منظمة الصحة العالمية بصدد تطوير رعاية الأمومة والطفولة في اليمن الديمقراطية . كما ووضع اللبنات الأولى لمكتبة صغيرة في المستشفى رفدها بالكتب الثقافية وبعض الكتب والمجلات الطبية وبادر بعقد الندوات الثقافية الأسبوعية للعاملين في المستشفى . كما اسس ناديا رياضيا وجلب المعدات الرياضية لتشكيل فريق رياضي من منتسبي المستشفى ووضع نظاما للمحفزات للعاملين هناك .لذا سارعت جميع المؤسسات في المحافظة بدراسة هذه الإتجاهات الجديدة في العمل لتدخلها في برامج عملها .

من الطرائف اللطيفة التي صادفت ابو ظفر في بداية عمله في عتق هو جهله لبعض المفردات في لهجة المنطقة ، فقد كان لا يفرق بين الكلمتين " كُمبل وشمبل " فالأولى تعني بطانية والثانية تعني نعال ابو الأصبع . وفي إحدى المرات كانت إحدى المراجعات إمرأة مع طفلها المريض. وبعد أن فحص الدكتور ابو ظفر الطفل وكتب له العلاج التفت الى الأم قائلا : "حافظي على الطفل من البرد وغطيه جيدا بالشمبل ." وهنا فتحت الأم عينيها بتعجب وقالت : " ايش يا دكتور اغطيه بالشمبل ؟ " وهنا تدارك ابو ظفر الأمر وضحك وقال لها : " اقصد الكمبل ، اعذريني لهذا الخطأ لأني اجهل لهجتكم ، سأتعلمها في المستقبل ."

في إحدى رسائل ابو ظفر التي كتبها لي من كردستان قال : " اليمن الديمقراطية ، بلد الطيبة والعطاء ، ارض الخير والوفاء الى حد ترسخت صور هذا البلد وشعبه الكريم في ذاكرتنا . ولم اكن اغالي وقتها عندما كنت اقول انها " مضيف الأممية " ، ففيها ينسى الإنسان انه غريب عن وطنه وهذا احسسناه بعد مغادرتنا لها ولم يكن لدينا من سلوى في ذلك سوى اننا متوجهون الى وطننا الأم .اغلب الرفاق معي في هذا المكان هم من الذين عشنا معهم في اليمن وفي كل جلساتنا واحاديثنا ..اليمن وعدن وعتق الحبيبة تتصدر اعز الذكريات يشوبها حنين وشوق حتى الى " مرارة " تلك الأيام وكل واحد هنا يرسم صورأ لكيف يلتقي بتلك الأرض مستقبلا. فلا تبخلي عليهم بالعطاء وإمنحي هذا الشعب عصارة فكرك وجهدك وانقلي منا للذين أحبونا واحتظنونا في محنتنا التحية والحب.

⚘يوميات من عتق ، بلقيس الربيعي⚘

الحلقه الثانيه


كان ملحق بمستشفى عتق المركزي اربعة بيوت ، احدى هذه البيوت كان مخصصا للطبيب وعائلته وكان مكونا من غرفتي نوم وصالة كبيرة ومطبخ . كنا نعيش في البيت احد عشر رفيقا وطفلين( ظفر ويسار الطفلان اللذان نورا لنا ظلمة الربع الخالي) كنا نعيش وكأننا عائلة واحدة وكنت اسميها " كومونة عتق " .إني أعجب أحيانا كيف انقضت الشهور ونحن في هذه البقعة من الربع الخالي ، حيث تنعدم فيها كل وسائل الترفيه ما عدا السينما . إنه الحماس الثوري والإيمان بعدالة قضيتنا هو الذي يشدنا الى الحياة والى بعضنا ويآلف بيننا الى درجة كبيرة حتى ليندر أن يحدث ما يعكر صفو هذه العلاقات الرفاقية الرائعة . وما احلى تجمعّنا حين يأتي الينا الرفاق اللذين يعيشون في مدينة بيحان ومنهم الرفيق يوسف ابو الفوز والرفيق كاظم وغيرهم ممن تخونني الذاكرة لتذكر أسمائهم وكذا من مدينة نصاب ومنهم ابو جوان وابو ريما وابو شكرية وابو زينب وآخرين ومن الصعيد ايضا .

كان يخصص لأبي ظفر مواد غذائية ( راشن )شهري معظمها معلبات ويوميا رطل لحم طازج وقبل تواجد هذا العدد الكبير من الرفاق وقبل وصولي والأطفال ، كان ابو ظفر يقتسم المواد بينه وبين الرفاق رشاد الشلاه و المرحوم صاحب نزر اللذان كانا يعملان في مدينة نصاب القريبة من عتق والتي تبرع ابو ظفر للعمل فيها يوما من كل اسبوع لعدم توفر طبيب وفي نهاية عمله يصطحب الرفيقين لقضاء نهاية الأسبوع معه .
لقد كانت مدينة عتق تفتقر الى وجود محلات لبيع اللحوم أو الأسماك ،لذا كنت أعدّ وجبة الغداء لأحد عشر رفيقا على رطل لحم ( 400 غرام ). كان الرفاق في البيت الثاني ( بيت المعلمين كما نسميه ) محرومين من هذه النعمة ،فقررت أن أقتسمه معهم . لذا طلبت من الرفيق ابو نشأت الذي كان يعمل مع ابو ظفر في المستشفى أن لا يأتيني باللحم يوميا بل بين يوم وآخر .احيانا كنت اقتطع من هذا الرطل واعمل منه خبز لحم ( خبز عروك ) فقد كنت اذهب بالعجين الى الأصدقاء اليمنيين لأن لديهم تنور ويسمونه ( موفة ) . وفي إحدى المرات علّقت إحدى اليمنيات قائلة : " والله العراقيين مدلعين ، يعملون من اللحم خبزا ! "

كنا نقضي أوقاتا طيبة والحياة الجماعية منعكسة بشكل رائع على تصرفاتنا رغم الصعوبات الحياتية في في مدينة عتق . فبعد أن نعود من عملنا ( ومعظمنا يعمل في التدريس ) نبدأ بإعداد مائدة الغداء وننتظر عودة ابو ظفر .كان الرفيق ابو ريما يأتينا من مدينة نصاب وهي قريبة من عتق ، ليقضي معنا نهاية الأسبوع . وفي احد الأيام ونحن على مائدة الغداء في إنتظار ابو ظفر انشد لنا هذه القصيدة التي كانت بعنوان : " دقّت الساعة

وفي اليوم الذي أعمل كاستر يفرح الرفيق الشهيد علي إبراهيم ويدور حولي و يردد " اليوم عندنا سعادة .. سعادة "
وبعد الغداء نتجمع في الصالة لتناول الشاي ، وفي هذه الفترة يتلو علينا الرفيق المرحوم ابو رياض ما اعده لنا من اخباروالتي تناولتها الإذاعات العالمية وخاصة إذاعة مونت كارلو .

في مدينة عتق تكثر الحمير السائبة ، تدور في الشوارع ليل نهار ولا يمتلكها احد . وفي احدى الليالي كان الرفاق في بيت المعلمين يغطون في نوم عميق سوى سلام الذي كان يعاني من الأرق في تلك الليلة . سمع وقع اقدام قرب الباب ، فظنه لصا ( حرامي ) . هرع بهدؤ الى المطبخ واخذ سكينا ومن وراء الباب صاح " من هناك ؟ " لم يرد عليه احد .وحين فتح الباب والسكين في يده الثانية . لم يرى امامه سوى حمارا وقد إنحشرت في قدميه علب فارغة . كتم ضحكة وعاد الى فراشه . وقضينا أياما من الضحك والتنكيت على هذه الحادثة .

يوميا كنت أنا التي تعد وجبة الغداء ، اما وجبة العشاء فقد كان الرفاق يعدونها بشكل دوري.في معظم الأحيان تتكون من اللحم المعلب الذي كان الرفيق المرحوم عبد علوان يرسله لنا من محافضة أبين بسعر مئة فلس للعلبة الواحدة وأحيانا تصلنا اكسبايرد ( منتهية مدة الصلاحية ) . كان الرفاق يتفنون في إعداد وجبة العشاء وخاصة الشهيد ابو إنتصار ، فمرة يفرمون اللحم مع البصل والبهارات ويعملون منه كباب مقلي ، وفي اليوم الثاني يقطعونه مكعبات ويقلونه مع البطاطا وفي اليوم الثالث يعملون منه شرائح مع البطاطا والبصل وقليل من معجون الطماطم في الفرن أو يعملوا مخلمة عراقية مستفيدين من مسحوق البيض الذي يعطى مع مواد الراشن .
كنا نعاني من شحة الماء في المدينة وكنا نزود به مرتين في الأسبوع ، وفي اليوم الذي يأتينا الماء نسارع الى ملأ الخزان في سطح المنزل وتنظيف البيت بشكل شامل وغسل الملابس. تمتاز عتق بتربة صالحة للزراعة لكن ينقصها الماء وهنا راودتني فكرة عمل حديقة امام المنزل، لكن من اين لنا بالماء لنسقيها . وفكر الرفاق بتحويل مجرى المياه بعد استعمالها في المطبخ والحماّم لإستعمالها في سقي الحديقة وفعلأ قمت مع مجموعة من الرفاق بحرث الأرض وتقسيمها الى الواح وزراعتها بالخضار التي تناسب جو وطبيعة المنطقة. وبهذه الحديقة أصبح عندنا إكتفاء بالخضار الطازجة والتي لاتتوفر في المدينة مثل البامية والباذنجان والطماطم و الخيار وبعض الخضروات مثل الفجل ، الكرفس والرشّاد .

مثلما ذكرت مسبقا بأن المدينة لا تتوفر فيها محلات لبيع اللحوم ،فقد فكانت تأتي سيارة صغيرة مبّردة تبيع دجاج طازج مرة كل اسبوعين أو ثلاثة وهي تشابه السيارة التي كانت تجوب شوارع المدن العراقية في نهاية الخمسينيات تبيع اللكستك ( الموطة ) . أحيانا تأتي السيارة وأكون أنا في الحصة الدراسية . وفي إحدى المرات كنت في حصة اللغة الأنكليزية وسمعت صوت السيارة قادمة فطلبت من احد الطلاب أن ينادي لي على احد الرفاق ( ليس لديه حصة ) لشغل حصتي أي نعمل تبديل في الحصص ليتسنى لي الخروج واللحاق بالسيارة (عيد ميلاد ظفر على الأبواب وعلي أن أعمل حفلة للرفاق بهذه المناسبة ) . وبعد أن أشتريت كمية من الدجاج ، بدأت افكر أين سأخزنها .فرغم وجود ثلاجة كبيرة في البيت لكن لافائدة منها فطيلة اليوم لاتوجد كهرباء وتأتينا فقط في الليل من الساعة السادسة مساءا حتى الحادية عشرة ليلا ، ومعنى هذا إنه لن استطيع الإحتفاظ بالدجاج الى يوم المناسبة ووقتها تذكرت صاحب الحانوت الصغير الذي تعرفت عليه عن طريق ابو ظفر . كان لديه ثلاجة تعمل على النفط أي أنها تعمل ليل نهار دون إنقطاع ، فطلبت منه أن يحتفظ لي بالدجاج لحين تأتي المناسبة . وبمناسبة ثورة اكتوبر الإشتراكية تقرر إقامة حفل بهذه المناسبة دعونا له بعض الأصدقاء اليمنيين والسوفيت والفلسطنيين في مدينة عتق ووقتها جلب لنا الرفيق ابو ربيع سمك طازج من مدينة بئر علي الساحية وعملنا المسكوف العراقي .

. زنايت كلمة روسية.

⚘يوميات من عتق ، بلقيس الربيعي⚘

الحلقه الثالثه

العادات والتقاليد في الأعراس في عتق لا تختلف كثيراً عما هو عليه في ريف المدن الأخرى في القسم الجنوبي من اليمن . ويتجلى في هذه الأعراس التضامن الإجتماعي وطريقة إستقبال الضيوف ، الذين غالبا ما يكونون من القرى المجاورة. والجميع يعتبر العرس مهرجانا إحتفالياً عاما لكل افراد القرية . و ابناء عتق معروفون بطيبتهم وتواضعهم ، يعيشون حياتهم البسيطة ، ولاشك ان هذا التواضع يجعل كل شيء من حولهم متواضعاً حتى في الأفراح..

في بداية عمله في عتق عام 1979 ، دُعي ابو ظفر الى عرس شقيق موظف يعمل معه في مستشفى عتق المركزي ولبى هذه الدعوة . ومن العادات هناك ، ان يكون ترتيب الضيوف حسب درجات الإستضافة ، فمن يكون من خارج القرية يتم تجليسه في الداخل ويسمونه ( نقع المقعد ) وبإعتبار ابو ظفر ضيف يحضر لإول مرة ، فقد تمً تجليسه في الركن الداخلي ثم يأتي بعده الضيوف الآخرين القادمين من القرى المجاورة، اما اهل القرية ،يكون مكانهم عند المدخل .
وعلى الغداء ، يقدم اهل العريس لكل خمسة او ستة اشخاص صحن كبير فيه رز وعليه قطع لحم . وفي الصحن المخصص لإبي ظفر والجالسين معه على المائدة وُضع امام ابو ظفر بالضبط قلب وظهر الخروف ويسمونها شمة الضيف ( الدخيل ) . رفع ابو ظفر القلب وحاول ان يقظمه ، لكنه لم يستطع لأن القلب كان غير مطبوخ جيدا ( وهذه طريقتهم في الطبخ) ، فأبعده عنه . قام احد الجالسين معه على المائدة بإعادته امام ابو ظفر ، وابو ظفر يبعده عنه و تكررت هذه العملية عدة مرات ، بعدها قال احد الجالسينعلى المائدة . ” دكتور من عاداتنا ان نضع قلب الخروف امام الضيف وهو يقوم بتقطيعه وتوزيعه على الجالسين معه على المائدة . ” إعتذر ابو ظفر لأنه يجهل عاداتهم وسارع بتقطيع القلب وتوزيعه على الجالسين معه على مائدة الغداء .

بعد أن إلتحقتُ بابي ظفر ، روى لي هذه المفارقة اللطيفة فأخذت فكرة عن بعض التقاليد هناك . وفي إحدى المرات دُعيتُ وابو ظفر الى عرس في منطقة الجابية القريبة من عتق . إعتذر ابو ظفر عن الحضور لأنه لا يستطيع ترك المستشفى وهو الطبيب الوحيد في المنطقة ، فطلب مني ان انوب عنه ، وكانت فرصة جميلة لي للتعرف على عادات المنطقة في الأعراس . ذهبت مع ظفر ويسار ورافقتني ام محمود والفقيد ابو رياض .

بدأ تجمع الأقرباء والضيوف في بيت اهل العروسة لتناول الغداء . ، جلستُ وام محمود وبعض ضيوف اهل العروسة على الأرض ووُضع امامنا صحن كبير فيه رز وعليه قطع لحم . وكالمعتاد وبإعتباري الضيف لهذا العرس ، وضع امامي قلب الخروف . ومن المعلومة التي عرفتها من ابو ظفر ، باشرت بتقطيع القلب وقمتُ بتوزيعه على الجالسين معي على المائدة . إستغربت الحاضرات من اهل العروسة لمعرفتي بعاداتهم وقلن : ” والله زوجة الدكتور تعرف تقاليدنا ! ” إنهن لا يعرفن بأني اجهل ذلك لولاما رواه لي ابو ظفر
بعد تناول الغداء ، طلبتُ أن ارى العروسة ، فأخذتني امها الى غرفة مجاورة للغرفة التي تناولنا فيها الغداء حيث كانت العروسة تجلس لمفردها وهي مغطاة من رأسها الى اخمص قدميها بغطاء يحجبها عن الحاضرين . جلستُ بجانبها ، لكنها لم تكشف عن وجهها . بعدها قلتُ لها : ” جئتُ من عتق و من غير الممكن ان احضر عرسك ولا اراك ِ ! ” وإستجابت لطلبي فرفعت غطاء وجهها قليلاً يسمح لي برؤية وجهها قليلاً . فقد كانت شابة جميلة بدون مكياج وشعر رأسها مغطى بالكامل بالحناء بحيث لايرى المرء شعرة واحدة تتدلى على جبهتها . وبعد اقل من دقيقة ، أعادت الغطاء على وجهها وهذا يعني بأنه لا يمكن لأي احد ان يراها قبل ان يراها العريس في ليلة الدخلة .
وعند المساء يتوجه الضيوف واهل القرية الى قاعة كبيرة خارج المنزل ( عادة ما تُقام فيها افراح اهل القرية ) . تمشي العروسة من منزل اهلها بالحناء ، وهي مغطاة بالكامل ، الى مكان حضور المدعوات وتُجلًس في ركن من القاعة ، ويبدأ الحفل بالاهازيج اليمنية الراقصة ولشبوة اهازيج خاصة بالزفاف تتغنى بالحب وبالفرح وتتباهى النسوة بالعروسة والعريس وتقوم بعض النسوة من الحاضرات بالرقص ويسموه (الشرح - البرع - السمرة) . بعدها تقوم إحدى النسوة بإعلان (الجباء- ألرفده ) ومعناها العون والمساهمة مرددة : ” رفدتك (جباك) يا حريو من فلان ابن فلان مبلغ … “ ومن حسن حظي كان في حقيبتي مبلغ على ما اذكر ثلاثة دنانير فسارعت بتقديمه ، لكني شعرت بالخجل حين رددت المرأة “ رفدة من زوجة الدكتورمبلغ ….. ”
بعدها يغادر المدعوون وتُزف العروسة الى بيت زوجها بحنتها وحين سألت : ” لماذا لا تغتسل قبل ذهابها الى بيت الزوجية “ ، قالوا : ” انها العادات بأن تغتسل في بيت زوجها... ” كانت النسوة يرددن الأهازيج :
“ ساري على ساري بسم الله الرحمن
ساري على ساري بخزي بكِ الشيطان
ساري على ساري مهرة وأخذها حصان

العروسة عمود البيت يلي تحيوها
إدعوا لها بالخير يلي تحبوها

بنتنا جاهل داخل المحجبة
رحًبوا بها ألف يا مرحبا

حلا حلا يستاهل
عاد صغير جاهل

وللمرة الثانية حضرت عرساً في مدينة نصاب ، يبدو أنهم يتبعون التقاليد نفسها مع بعض التغيير . فقبل ان تُزف العروسة الى بيت زوجها ، تجلس بجانب العريس كاشفة وجهها ،و لاتتكلم معه طيلة الوقت . " ويسمون هذه الاحتفالية بالمخدرة " ، تقوم فنانة يمنية بإنشاد الأغاني اليمنية الراقصة وتقوم والدة العريس واخواته بالرقص . في ذلك العرس أثار إنتباهي الى الفنانة التي تُنشد الأهازيج كانت بين الحين والحين تقول شعراً فيه نفس سياسي بعدها فهمتُ انها تقصد الوحدة اليمنية ولازلت اذكر منه :
“ ياعدن قولي لصنعاء لو تشتي دا نضالي
لا تقولي دا رجعي ولا دا شمالي “

الصوره للاستاذه بلقيس وزوجها الشهيد الدكتور ابا ظفر وهو متوشح الزي الشعبي الشبواني اثنا الكشف على احد المرضى