الإثنين - 03 نوفمبر 2025 - الساعة 06:17 م
في خطوةٍ وصفت بأنها منعطف حاسم في مسار الإصلاح الاقتصادي والمالي للدولة اليمنية، أصدر مجلس القيادة الرئاسي القرار رقم (11) لعام 2025 القاضي بإطلاق خطة الإصلاحات الاقتصادية الشاملة. ويأتي هذا القرار في سياق مساعي الدولة لإعادة ضبط المنظومة المالية والنقدية بعد سنوات من الانقسام المؤسسي وتراجع الإيرادات وتفاقم الهدر المالي، بما يمثل بداية مرحلة جديدة من الحوكمة والانضباط المالي تهدف إلى استعادة فاعلية الدولة الاقتصادية وتعزيز الاستقرار النقدي والمالي.
*أولاً: الخلفية والسياق العام*
يأتي القرار في ظل مرحلة حساسة تمر بها الدولة اليمنية، التي تواجه أزمات مركبة ذات طابع اقتصادي ونقدي ومؤسسي، نتيجة مجموعة من التحديات أبرزها التراجع المستمر في الإيرادات العامة وتشتتها بين المحافظات، وازدواج السلطات المالية والنقدية، وفقدان الانضباط المالي العام، وضعف كفاءة النظام المصرفي وانقسامه الهيكلي بين المركز والفروع، إلى جانب تفشي التهرب الجمركي والضريبي واستحداث صناديق وجبايات غير قانونية، ومن هذا المنطلق يمثل القرار رقم (11/2025) محاولة لإعادة توحيد النظام المالي والنقدي للدولة عبر أدوات مركزية للرقابة والتوريد، بما يعيد الانضباط المالي ويهيئ بيئة مؤسسية للإصلاح الشامل.
*ثانياً: أهداف القرار*
يستند القرار إلى رؤية إستراتيجية شاملة يمكن تلخيصها في أربعة محاور رئيسة، هي:
تعزيز المركزية المالية والنقدية للدولة من خلال إلزام المحافظات والجهات الحكومية بتوريد الإيرادات إلى البنك المركزي اليمني في عدن، ومنع أي تجنيب أو صرف خارج القنوات القانونية، كما يهدف إلى توسيع القاعدة الإيرادية وإغلاق منافذ الهدر عبر معالجة الاختلالات في تحصيل الموارد الجمركية والضريبية، وإلغاء الصناديق والرسوم المستحدثة، وتفعيل المنافذ الرسمية فقط.
ويتضمن القرار أيضًا إعادة هيكلة العلاقة بين الحكومة والبنك المركزي بما يضمن استقلالية البنك كمؤسسة نقدية وتحميله مسؤولية إدارة الإيرادات وتغطية النفقات وفق إطار موازنة عامة، إلى جانب تحقيق الاستدامة الاقتصادية والتوازن المالي من خلال ضبط النفقات الجارية، خصوصاً المرتبات، وتحديد أولويات الصرف في القطاعات الحيوية كالدفاع والداخلية والتعليم والصحة والبعثات الدبلوماسية.
*ثالثاً: أدوات وآليات التنفيذ*
يعتمد القرار على مجموعة من الأدوات السياسية والاقتصادية والتشريعية لضمان التطبيق الفعال، من أبرزها الإطار المؤسسي الذي يلزم الوزارات والهيئات والمحافظات بالالتزام بالقوانين واللوائح المالية القائمة، مع إلغاء أي قرارات محلية متعارضة. كما يشمل القرار أدوات نقدية تتمثل في توجيه البنك المركزي لتوحيد الحسابات الحكومية والتحكم بسعر الصرف الجمركي، وتوريد حصيلة مبيعات النفط والغاز إليه مباشرة.
ويعتمد القرار أيضاً على أدوات إدارية تلزم المحافظين والجهات التنفيذية بالتقيد بالتوجيهات المركزية وإخضاع أعمالهم للرقابة والمساءلة، وأدوات قانونية تتضمن إلغاء الصناديق غير القانونية والرسوم الإضافية ومنع أي إعفاءات أو تخفيضات جمركية خارج الأطر الرسمية، بالإضافة إلى أدوات رقابية عبر تكليف اللجنة العليا لمكافحة التهرب الضريبي والجمركي بالتنسيق مع وزارتي الدفاع والداخلية لضمان التنفيذ القسري للقرار.
*رابعاً: التقييم العام للقرار*
يُعد القرار رقم (11/2025) خطوة جريئة واستراتيجية نحو استعادة وظيفة الدولة الاقتصادية، ويعكس توجهًا واضحًا نحو توحيد النظام المالي والنقدي ومركزة الموارد والإيرادات وتعزيز الشفافية والمساءلة، بما يهيئ بيئة ملائمة للإصلاح المؤسسي الشامل. ومع ذلك فإن نجاح القرار سيظل مرهونًا بتوافر الإرادة السياسية والقدرات المؤسسية، إلى جانب تكامل الأدوار بين الحكومة والبنك المركزي والمحافظات، ضمن رؤية إصلاحية متسقة ومترابطة توازن بين متطلبات المركزية والانضباط المالي واحتياجات التنمية المحلية.
*خامساً: الخلاصة الأكاديمية الموسعة*
يمثل القرار رقم (11) لعام 2025 منعطفًا تاريخيًا في مسار بناء الدولة اليمنية الحديثة، وتحولًا نوعيًا في منهجية الحوكمة الاقتصادية من حالة التشتت والازدواج إلى نظامٍ مالي موحد ومنضبط يرتكز على مبادئ الكفاءة والشفافية والمساءلة، فهو لا يعد مجرد قرار إداري أو مالي، بل خطوة تأسيسية نحو إعادة صياغة العلاقة بين المركز والمحافظات على أساس من التكامل المالي والإداري، بما يعيد للدولة دورها المركزي في إدارة الموارد العامة وتوجيهها نحو تحقيق التنمية والاستقرار.
من الناحية النظرية يجسد القرار تطبيقًا عمليًا لمبدأ “الإصلاح عبر الحوكمة المالية” الذي يُعد من أهم ركائز بناء الدولة الحديثة، إذ يعيد الاعتبار إلى مفهوم الدولة كمؤسسة اقتصادية جامعة تحتكم إلى قانون موحد للمال العام، وتستند في قراراتها إلى معايير مهنية وموضوعية في إدارة الموارد وتوزيعها بعدالة بين المحافظات، كما يعكس القرار توجهًا نحو توطيد استقلالية البنك المركزي بوصفه مؤسسة سيادية ذات دور محوري في ضبط السياسة النقدية وسعر الصرف وتنظيم التدفقات المالية بين الداخل والخارج، وهو ما من شأنه أن يحد من الازدواج النقدي ويعيد الثقة بالعملة الوطنية.
وعلى المستوى المؤسسي فإن القرار يفتح الباب أمام تحول هيكلي شامل في بنية المالية العامة، من خلال دمج الصناديق المتعددة ضمن إطار موازنة موحد، وتوحيد قنوات التحصيل والإنفاق عبر البنك المركزي، وتفعيل الرقابة المسبقة واللاحقة على العمليات المالية، بما يعزز كفاءة الإنفاق العام ويحد من الهدر والفساد، كما يتيح المجال أمام إعادة بناء القدرات الإدارية والمالية للمؤسسات الحكومية على أسس مهنية، ويعزز مبدأ المساءلة والمحاسبة في إدارة المال العام.
وفي السياق الاقتصادي الأوسع يمكن النظر إلى القرار كمدخل رئيس لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، إذ يسهم في استقرار البيئة المالية والنقدية، ويعيد التوازن بين الإيرادات والنفقات، ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستدامة الاقتصادية القادرة على جذب الاستثمارات المحلية والخارجية، فكلما تحقق الانضباط المالي وتوحدت القنوات الإيرادية والنقدية، ازدادت قدرة الدولة على تمويل مشاريع التنمية والبنية التحتية وتحسين الخدمات العامة.
وعلى المدى البعيد من المتوقع أن يساهم القرار في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة من خلال توجيه الموارد نحو أولويات التنمية المحلية وتحسين مستوى المعيشة، وهو ما يعزز الانتماء الوطني ويقوي شرعية الدولة في مختلف المحافظات، كما أنه يمهد الطريق نحو إصلاحٍ شامل للسياسات المالية والنقدية، يربط بين كفاءة إدارة الموارد وتحقيق العدالة في توزيعها، ويجعل من النظام المالي الموحد ركيزة رئيسة لمشروع الدولة المدنية الحديثة.
إن القرار رقم (11/2025) ليس مجرد استجابة ظرفية لتحديات مالية واقتصادية، بل هو خارطة طريق لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس من الحوكمة والشفافية والسيادة المالية، وبداية مسار طويل نحو تعافٍ اقتصادي مستدام يقوده التخطيط العلمي والإدارة الرشيدة، ومع تضافر الإرادة السياسية والمهنية، ووجود بيئة تشريعية داعمة، ورقابة مالية مستقلة، فإن هذا القرار يمكن أن يشكل نقطة انطلاق حقيقية نحو يمن جديد ومستقر اقتصاديًا ومؤسسيًا، قادر على إدارة موارده بفعالية، والانطلاق بثقة نحو مرحلة إعادة الإعمار والتنمية الشاملة، وترسيخ دعائم الدولة اليمنية الحديثة القائمة على العدالة والكفاءة والاستدامة.